فصل: وقد ضل في القدر طائفتان

صباحاً 9 :35
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
23
الثلاثاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين **


وقد ضل في القدر طائفتان

إحداهما‏:‏ الجبرية

الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة وليس له فيه إرادة ولا قدرة‏.‏

الثانية‏:‏ القدرية

الذين قالوا‏:‏ إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه آثر‏.‏

والرد على الطائفة الأولى ‏(‏الجبرية‏)‏ بالشرع والواقع‏:‏

أما الشرع‏:‏ فإن الله تعال أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ‏}‏ ‏[‏سورة آل عمران، الآية‏:‏ 152‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ ‏[‏سورة الكهف، الآية‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ‏}‏ ‏[‏سورة فصلت، الآية‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وأما الواقع‏:‏ فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه‏.‏

أما الشرع‏:‏ فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة، الآية‏:‏ 253‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏سورة السجدة، الآية‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وأما العقل‏:‏ فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ الإحسان، ركن واحد وهو ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏ والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏سورة النحل، الآية‏:‏ 128‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏[‏سورة الشعراء، الآيات‏:‏ 217-220‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏سورة يونس، الآية‏:‏ 61‏]‏‏.‏

الإحسان ضد الإساءة وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى فيبذل المعروف لعباد الله في ماله، وجاهه، وعلمه، وبدنه‏.‏

فأما المال فان ينفق ويتصدق ويزكى وأفضل أنواع الإحسان بالمال الزكاة، لأن الزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ولا يتم إسلام المرء إلا بها، وهي أحب النفقات إلى الله عز وجل، ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلًا‏.‏

وأما بذل المعروف في الجاه فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي السلطان يشفع له عنده، إما يدفع ضرر عنه، أوبجلب خير له‏.‏

وأما بعلمه فإن يبذل علمه لعباد الله، تعليمًا في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير والإحسان أن تعلم الناس، ولوكنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن أستعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست في مجلسًا جعلت تعظهم وتتحدث إليهم، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر، لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تركه الخير لكثرة من يقوم ويتكلم‏.‏

وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة‏)‏ ‏[‏رواه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب ‏:‏ فضل من حمل متاع صاحبه‏.‏ ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب‏:‏ بيان أن أسم الصدق يقع في كل نوع من المعروف‏.‏‏]‏‏.‏

فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أوتدله على طريق أوما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله‏.‏

وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله‏:‏ فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثًا عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى، ‏(‏فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، وهذه عبادة الهرب والخوف، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان، إذا لم تكن تعبد الله - عز وجل - كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هوالذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أرباب السلوك أدنى من الدرجة الأولى‏.‏

وعبادة الله - سبحانه وتعالى - هي كما قال ابن القيم - رحمه الله -‏:‏

وعبادة الرحمن غاية في حبه ** مع ذل عابده هما ركنان

فالعبادة مبنية على هذين الأمرين‏:‏ غاية الحب، وغاية الذل، ففي الحب الطلب، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هوالإحسان في عبادة الله عز وجل‏.‏ وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصًا لله - عز وجل - لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة، ولا محًا عند الناس، وسواء اطلع الناس عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته، وأن تكون عبادته مع ربه سرًا، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين والإسلام، مثل أن يكون رجلًا متبوعًا يقتدي به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراسًا يسيرون عليه أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدي بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة الإخفاء، لهذا يثني الله - عز وجل - على الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا، وإذا كان في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه‏.‏

والمؤمن ينظر ما هو الأصلح، كلما كان أصلح وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل‏.‏

والدليل من السنة‏:‏ حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ بينما نحن جلوس عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشرع لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال‏:‏ يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا‏)‏ قال‏:‏ صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه‏.‏ قال‏:‏ فأخبرني عن الإيمان، قال‏:‏ ‏(‏أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏، قال‏:‏ صدقت، قال‏:‏ فأخبرني عن الإحسان، قال‏:‏ ‏(‏أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏)‏، قال‏:‏ فأخبرني عن الساعة، قال‏:‏ ‏(‏أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان‏)‏ قال‏:‏ فمضى فلبثنا مليًا فقال‏:‏ ‏(‏يا عمر أتدري من السائل‏)‏‏؟‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم‏)‏ ‏.‏ ‏[‏رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإيمان والإسلام ، وغالب هذا الحديث تقدم شرحه ولنا شرح عليه في مجموع الفتاوى والرسائل 3/143‏.‏

‏]‏‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ معرفة نبيكم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو‏:‏ محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم وهاشم من قريش، وقري من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل، إبن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا

أي من الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها وهي معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه‏.‏

وقد سبق الكلام على معرفة العبد ربه ودينه‏.‏

وأما معرفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتتضمن خمسة أمور‏:‏

الأمور‏:‏ معرفته نسبًا فهو أشرف الناس نسبًا فهو أشرف الناس نسبًا فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله‏.‏

الثاني‏:‏ معرفة سنه، ومان ولادته، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله‏:‏ ‏(‏وله من العمر ثلاث وستون سنة، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة‏)‏ فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثًا وخمسين سنة، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين، ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشر بعد الهجرة‏.‏

الثالث‏:‏ معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد شعرائه‏:‏

وأنت عليه أربعون فأشرقت ** شمس النبوة منه في رمضان

الرابع‏:‏ بماذا كان نبيًا ورسولًا‏؟‏ فقد كان نبيًا حين نزل عليه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏سورة العلق، الآيات‏:‏ 1-5‏]‏، ثم كان رسولًا حين نزل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏

أفضل الصلاة والسلام‏.‏ وله من العمر‏:‏ ثلاث وستون سنة، منها اربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًا ورسولًا، نبيء بإقرأ‏.‏ وارسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة‏.‏

بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد ‏[‏أي ينذرهم عن الشرك ويدعوهم إلى توحيد الله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته‏.‏‏]‏‏.‏ والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏ ‏[‏سورة المدثر، الآيات‏:‏ 1-7‏]‏، فقام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنذر وقام بأمر الله عز وجل‏.‏

والفرق بين الرسول والنبي كما يقول أهل العلم‏:‏ أن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحى الله إليه بشرع وأمر بتبليغه والعمل به فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولًا‏.‏

الخامس‏:‏ بماذا أرسل ولماذا‏؟‏ فقد أرسل بتوحيد الله تعالى وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور، وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى النور العلم والإيمان والتوحيد حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه‏.‏

النداء لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

يأمر الله عز وجل نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقوم بجد ونشاط وينذر الناس عن الشرك ويحذرهم منه وقد فسر هذه الآيات‏.‏

{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏ ‏[‏سورة المدثر، الآيات‏:‏ 1-7‏]‏ ومعنى ‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏:‏ ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ‏.‏‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ أي‏:‏ عظمه بالتوحيد، ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ أي‏:‏ طهر أعمالك عن الشرك‏.‏ ‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ الرجز‏:‏ الأصنام وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها‏.‏

أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ‏[‏أي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقي عشر سنين يدعو إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى‏.‏‏]‏ وبعد العشر عرج به إلى السماء ‏[‏العروج الصعود ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏سورة المعارج، الآية‏:‏ 4‏]‏ وهو من خصائص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العظيمة التي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة، فبينما هونائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغره نحره إلى اسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا تهيئة لما سيقوم به ثم أتى بداية بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا بكل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه ليتبين بذلك فضل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرفه وأنه الإمام المتبوع، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا‏؟‏ قال‏:‏ جبريل‏.‏ قبل ومن معك ‏؟‏ قال‏:‏ محمد قبل‏:‏ وقد أرسل إليه‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ قيل‏:‏ مرحبًا به فنعم المجىء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل‏:‏ هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال مرحبًا بالأبن الصالح والنبي الصالح، وغذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبيل شماله بكى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح‏.‏ ‏.‏ ‏]‏ ،‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏

إلخ‏.‏ فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل‏:‏ هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، فردا السلام وقالا‏:‏ مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح‏.‏ ‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه، فرد السلام، وقال مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح‏.‏ ‏.‏ إلخ فوجد فيها إدريس ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال جبريل هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام، وقال‏:‏ مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏إلخ‏.‏ فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال جبريل هذا هارون فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏ فوجد فيها موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال جبريل هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له ما يبكيك قال‏:‏ ‏(‏أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي‏)‏ فكان بكاء موسى حزنًا على ما فات أمته من الفضائل لا حسدًا لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم عرج به إلى السماء السابعة فاستفتح‏.‏ ‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال جبريل‏:‏ هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحبًا بالأبن الصالح والنبي الصالح‏.‏ وإنما طاف جبريل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هؤلاء الأنبياء تكريمًا له وإظهارًا لشرفه وفضله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان إبراهيم الخليل مسندًا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، ثم رفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من غير البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال‏:‏ ما فرض ربك على أمتك ‏؟‏ قال‏:‏ خمسين صلاة في كل يوم‏.‏ فقال‏:‏ إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس من قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك‏.‏ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرجعت فوضع عن يعشرًا وما زال راجع حتى استقرت الفريضة على خمس، فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي‏.‏ وفي هذه الليلة أدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح‏.‏ (1)

وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين ‏(2)‏ ، وبعدها أمر بالهجرة (3)‏ إلى المدينة‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏

فأعلم الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة وكان أبوبكر رضي الله عنه قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رسلك فإن أرجوأن يؤذن لي فتأخر أبوبكر رضي الله عنه ليصحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت عائشة رضي الله عنها فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الباب مقتنعًا فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال لأبي بكر‏:‏ أخرج من عندك‏.‏ فقال‏:‏ إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي‏.‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أذن لي في الخروج فقال أبوبكر الصحبة يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين‏.‏ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ بالثمن ثم خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبوبكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وكان غلامًا شابًا ذكيًا في آخر الليل إلى مكة فيصبح من قريش فلا يسمع بخبر حول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشًا ليقفون على باب الغار فلا يرونهما‏.‏ قال، أبوبكر رضي الله عنه قلت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونحن في الغار لوأن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا‏.‏ فقال‏:‏ (4).‏ ‏[‏أخرجه البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب المهاجرين وفضلهم ، ومسلم‏]‏‏.‏ حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلًا خرجا من

والهجرة‏:‏ الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام‏.‏

الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل‏.‏